التوظيف الجمالــي للموروث الشعبـــي في التشكيل الخليجي المعاصر

الباحث المراسلشوقي الموسوي جامعة بابل / كلية الفنون الجميلة

Date Of Acception :2023-08-24
Date Of Publication :2024-12-24
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

المقدمــــة 

أكد الفنان عبر العصور، على ضرورة إحداث الأثر الفني لدى المتلقي لحظة فعل التلقي، لتحقيق إحدى غايات الفن (الجمال –المتعة – الخير – الدهشة – التأمل – الصدمة...)، التي تثير المشاعر فتحقق لذة بصرية أو روحية، يجعل من الفن بمثابة وسيلة أو أداة توصيل لفكرة ما إلى الآخر ضمن عملية الإبداع الفني. فقد تباينت التجارب الجمالية في تحديد مفهوم معنى الجمالية في التأثيث والتوظيف، بحدود الثقافات المتعددة التي تكمن أطروحاتها في الفن والأدب والفكر الإنساني والفلسفي والجمالي؛ بمعنى أن مقولة الجمال قد امتدت جذورها إلى معظم ميادين الحياة تحمل بين طياتها نتاجات الفن والفكر والفلسفة والأدب ضمن أطروحات الحداثة وما بعدها وما بعد بعد الحداثة، التي ابتعدت عن المألوف واقتربت من فضاءات المختلف والمتشظي والهامشي، سواء في الجانب التقني أو الأسلوبي أو الفكري. ويمكن عدّها نزعة إنسانية متنامية لها حضور في تاريخ الإنسان. (ادونيس،1993، ص96). ولذلك نجد أن مفهوم الجمال والجمالية وطرق التوظيف والتوصيف في الفن المعاصر بشكل عام والعربي الخليجي بشكل خاص، شهد تغيرات وتحولات فكرية، على صعيد كل الثقافات الأدبية المجاورة للإبداع، ومن ضمنها توظيف التراث والموروث الحضاري والإسلامي والشعبي في الفن والحياة.

فالفنان بشكل عام والعربي المعاصر بشكل خاص، نجدهُ قد حاول استلهام الموروث وبمختلف مستوياته للحفاظ على هويته، لذلك نلاحظ وجود العديد من الفنانين المعاصرين في دول الخليج العربي، صيَّروا أعمالهم مرآة للماضي الجميل، ولكن الرؤى والأساليب بعيون الحاضر. فابتكروا تكوينات فنية ذات طابع تراثي، على اعتبار أن الموروث يأتي بمثابة رصيد لكل مجتمع من المجتمعات التي تمتلك تأريخاً عريقاً حافلاً بالمنجزات التي تمثل حضارة ذلك المجتمع. 

      وقد اهتم الفنان التشكيلي المعاصر، بجماليات الموروث الشعبي وتمثيله في أغلب تجاربهم البصرية، المتمظهرة في جغرافية مدنهم وجبالهم وسهولهم ووديانهم وتقاليدهم وأزيائهم وفنونهم الشعبية وتاريخهم المتصل بالعديد من الحضارات القديمة وتفاعلت، فأضاف لذاكرتهم الفكرية والبصرية في حدود دول الخليج العربي ضمن الجزيرة العربية أبعاداً جمالية ومعرفية وحضارية وثقافية، تجسد من خلالها الموروث الشعبي من قصص وحكايات وأغاني ورقص وأشعار وألعاب وفلكلور ورسوم وعمارة وطقوس، أصبحت مادة جاهزة للفنان التشكيلي الخليجي في العراق والبحرين والسعودية والكويت والامارات وقطر واليمن فضلاً عن سلطنة عمان، يسعى من خلالها صياغة خطاب بصري معاصر مميز وبأساليب متنوعة ما بين التشخيص والتعبير والتجريد... فقد انتقل الموروث الحضاري والتراث الشعبي من جيل إلى آخر، عبر تمرحلات تاريخية وحضارية مدنية وطقوس دينية وأفكار فلسفية وقيم جمالية وبيئة محيطية شرقية، وتمظهر بأشكال متنوعة وتصنيفات متعددة بحسب الأساليب الفنية وفي مختلف المجالات الفنية (التشكيل، العمارة، التصميم، الخط والزخرفة، المسرح، الموسيقى، السينما، الحرف اليدوية..)؛ بوصف ان الموروث هو بقايا القديم وثقافة ما قبل التدوين ويأتي بمثابة ذاكرة الأجيال المتعاقبة ومستقبل حاضر في الفن والأدب. 

   كما ارتبط التراث أو الموروث الشعبي كمفهوم اصطلاحي بمفردة (الفولكلور Folklore) من الناحية التاريخية، ولكن من ناحية ابتكاره كان عند وليم جون توم (W.J.Thoms) لحظة تأسيس جمعية الفولكلور الإنكليزية في لندن سنة 1877مـ، من أجل التدليل على دراسة العادات المأثورة والمعتقدات والآثار الشعبية القديمة، فضلاً عن الدراسات العديدة التي قدمها الانثروبولوجيين (INTHROBOLOGY) والسوسيولوجيين SOCIOLOGY)) التي أسهمت في ترسيخ أساسيات الموروث وجعلته يتمظهر كعلم في سنة 1955مـ في أحد المؤتمرات العلمية التراثية المتخصصة بالتقاليد والأعراف.. وقد اهتم الفلكلور بالعديد من الموضوعات أهمها: المعتقدات الخرافية والعقائد والممارسات، والعادات المأثورة، والمرويات والحكاية المأثورة، والأقوال الحكمية المأثورة.

     وقد وجدت ألفاظ ومسميات أخرى للفلكلور أو التراث، فالأقطار اللاتينية استبدلت المصطلح اليوناني (ديموس  demos) (الناس) بكلمة (Folk) وقد استخدمت في فرنسا الاصطلاحات الآتية: ديمولوجي – demologie) أو ديموسيكولوجي – demopsychologie) وكذلك أنثروبوسيكولوجي– Anthropopsychologie) وكان ذلك حتى سنة 1880مـ؛ إذ استخدم (جادو – Gaidoz) و (سيبليه – Sebillot) اصطلاح فلكلور، أما في ايطاليا فقد كان مصطلح (Demologia) هو المقابل لمصطلح فلكلور.. وفي السويد ظهر اصطلاح (الذواكر الشعبية) وتطور استعماله ثم استبدل الآن بكلمة فلكلور (العنتيل، 1965، ص31). 

       فالموروث يعد بمثابة تسجيل حرفي لبنية البيئة المحيطية التي أنتجته، ترتسم خصائصها بأصالة تمثيلاً لمواصفات تلك البيئة العربية الإسلامية.. سواء أكان تراثاً شفوياً من خلال الرواية والحكايات والمواعظ والحكم والأقوال الشعرية والمقاطع الغنائية، أو تراثاً مكتوباً في مخطوطات أو بحوث علمية أو بحوث نقلية. وبالتالي تأتي أهمية الموروث والرواية والحكاية الشعبية بوصفها مستلهمة من منابع وجذور أصيلة متمثلة بروائع وسمات الفن الإسلامي وتعاليم القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة المنقولة عن نبي الرحمة ورسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم). من هنا جاءت فكرة البحث الحالي لتقصي التوظيف الجمالــي للموروث الشعبـــي في التشكيل الخليجي المعاصر على وجهة الخصوص ومناقشة بعض قضايا مفاهيم الجمال والجمالية في الفكر الفلسفي، وملامح الخطاب الجمالي في بعض أعمال فناني دول الخليج والتعرف على آليات توظيف المورث الشعبي في اللوحات التصويرية في التشكيل الخليجي المعاصر.

مشكلة البحث وأسئلته: 

يعد الموروث بمفرداته التراثية، معيناً لا ينضب ومورداً رحباً، اتخذه الأدباء والفنانون وسيلة للتعبير عن أفكارهم، من خلال التوظيف الجمالي للرموز التراثية في التشكيل العربي بشكل عام والخليجي على وجه الخصوص، للحفاظ على الهوية والموروث ودلالاته وتأصيل جماله لما يحمله من آفاق وأفكار ورؤى. وبناءً على ما تقدم يرى الباحث ضرورة تسليط الضوء على الآليات والأساليب التي يتم فيها توظيف الجمال للتراث في الفن المعاصر، ومن أجل التصدي لمشكلة البحث تم إثارة الأسئلة الآتية: 

  1. ما مفهوم الجمال والجمالية في الفكر الفلسفي من حيث (المفهوم والوظيفة)؟
  2. ما ملامح الخطاب الفني والجمالي في أعمال فناني دول الخليج العربي؟
  3.  كيف وظف الفنان الخليجي –عينة الدراسة- الموروث الشعبـي توظيفاً جمالياً في التشكيل الخليجي المعاصر؟

أهمية البحث: 

يستمد البحث الحالي أهميته من أهمية مشكلته الناشئة عن الحاجة إلى التعرّف على التوظيف الجمالي للتراث في الفن التشكيلي المعاصر، وأن التصدي لهذه المشكلة يُلبي حاجات عديدة، منها: حاجة طلبة الفن والمهتمين بجماليات الفن العربي المعاصر. وقد يفتح آفاقا رحبة أخرى في دراسة تمثل أطروحات ما بعد الحداثة في الفنون المعاصرة.

أهداف البحث: 

يهدف البحث الحالي إلى تحقيق الأهداف الآتية: 

  1. تتبع مفهوم الجمال والجمالية في الفكر الفلسفي من حيث المفهوم والوظيفة.
  2. الكشف عن ملامح الخطاب الفني والجمالي في أعمال فناني دول الخليج العربي.
  3. التعرف على آليات التوظيف الجمالي للموروث الشعبي في التشكيل الخليجي المعاصر.

 

حدود البحث: 

تحدد البحث الحالي بموضوع التراث الشعبي وكيفية توظيفه جمالياً في التشكيل الخليجي من خلال تحليل نماذج مصورة لبعض أعمال التشكيل والمحفوظة في بعض المصادر الأجنبية والكتب الموسوعية، فضلاً عن وجودها في المواقع الالكترونية على الشبكة المعلوماتية (الانترنت) وفي الفترة المحصورة بين (1957- 1916مـ) وبحدود (5) أعمال فنية من (العراق، السعودية، قطر، الكويت، سلطنة عُمان).

 

مصطلحات البحث: 

التوظيف الجمالي: سيقوم الباحث بتعريف التوظيف على حدة، والجمال أو الجمالي على حدة؛ من أجل الخروج بتعريف إجرائي للمصطلح المركب (التوظيف الجمالي)، وذلك على النحو الآتي:

أ- التوظيف Function

  • لغة: "جمعها الوظائف والوظُف. ووظّف الشيء على نفسه ووظّفه توظيفاً: ألزمها إيّاه وقد وظّفت له توظيفاً على الصبيّ كل يوم حفظ آيات من كتاب الله عز وجلّ... وجاءت الإبل على وظيف واحد إذا تبع بعضها بعضاً كأنّها قطار، كل بعير رأسه عند ذنب صاحبه، وجاء يظفِهِ أي يتبعه، عن ابن الأعرابي. ويقال: وظف فلان فلاناً يظفه وظفاً إذا تبعه" (منظور،1968، ص358).
  • وفي قاموس اكسفورد: "الإفادة من أو إيجاد فائدة لشيء ما" (Hornby, 1974, p.266).
  • ويأتي معناه: استوظف الشيء: استوعبه. (البستاني، 1996، ص927)
  • اصطلاحاً: تم تعريفه بأنه: "مظهر خارجي لأوصاف أشياء معينة في نسق معين من العلاقات" (روزنتال ويودين، 1985، ص586) 
  • وهو: "نتيجة موضوعية لظاهرة اجتماعية يلمسها الأفراد والجماعات وقد تكون ظاهرة أو كامنة" (إحسان، 1999، ص668).

ب - الجمال والجمالية (Aesthetics): 

  • لغة: "يعرّف الجمال جماعة من اللغويين الكبار على أنه: صفة تلفظ في الأشياء، وتبعث في النفوس سروراً وإحساساً بالانتظام والتناغم، وهو أحد المفاهيم الثلاثة التي تنسب إليها أحكام القيم: (الجمال والحق والخير)" (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1989، ص264).
  • "والجمال عند (أفلاطون) و (أرسطو) هو التناسب والائتلاف والنظام والكمال في كل الموجودات، في الأشكال والحركات والأنغام وغيرها" (مطر،1962، ص75).
  • "بينما نجد الجمالية: نظرية في التذوق أو أنها عملية إدراك حسي للجمال في الطبيعة والفن" (Harold،1998، ص12(.

ويأتي معنى الجمالية بأنها: "محاولة لإيجاد أشكال ممتعة، ومثل هذه الأشكال تشبع إحساسنا بالجمال، وإحساسنا بالجمال إنما يشبع حينما نكون قادرين على أن نتذوق الوحدة والتناغم بين مجموعة من العلاقات الشكلية من بين الأشياء التي تدركها الحواس" (وطفة، 2001، ص35). 

      وبعد اطلاع الباحث على التعاريف السابقة للتوظيف وللجمالية والاستفادة منهما، قام بتكوين تعريف إجرائي للتوظيف الجمالي يتناسب مع هدف البحث، ويتمثل في أنه: عملية تحقيق علاقة ترابطية بين الظواهر الاجتماعية لإدراك الجمال، من أجل إنتاج أنساق وأشكال وصور حقيقية تبعث في النفس لذة ومتعة ودهشة تشعرنا بالجمال والسعادة لحظة التلقي والتواصل مع مجموعة من العلاقات التكوينية الشكلية لفنون التشكيل المعاصر.

الموروث الشعبي: سيتم تعريف مصطلحي الموروث والشعبي، كل على حدة؛ من أجل الخروج بتعريف المصطلح المركب (الموروث الشعبي) إجرائياً: 

  • الموروث: لغة: "مجموع العناصر الثقافية المادية والروحية لأي شعب، وجدت عبر الزمن فترحلت من جيل إلى آخر بجميع عناصرها المادية المدونة وغير المدونة، لتصبح بمثابة مرآة الأحداث التاريخية التي عاشها المجتمع" (العنتيل، 1965، ص10). 
  • وتم تعريفه بأنه: "المرآة التي تعكس صورا نابضة عن حياة الأمم والبشر، يدون فنونها وتراثها وآلامها وآمالها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها وطرائق ممارستها للحياة" (عامر،1987، ص28).
  • اصطلاحاً: يعرف بأنهُ: " ضرب من الانحراف الذاتي عن المحتوى الموضوعي، أو عن المعطيات الحسية الفعلية ". (رزوق،1977، ص112).
  • ويعرّف بأنه: "تحريف ذاتي للمحتوى الموضوعي أو للمعطيات الحسية الفعلية" (دسوقي،1988، ص680).

وبعد اطلاع الباحث على التعاريف السابقة يعرّف الموروث الشعبي إجرائيًا في هذا البحث بأنه: مجموعة الطقوس والتقاليد والموروثات الحضارية والعناصر المادية والمعنوية التراثية للشعوب، والتي توارثتها عبر الزمن، وتمرحلت بها من جيل إلى آخر، وتم توظيفها في الفكر والفن والثقافة لأجل تدوينه في الفن التشكيلي العربي والحفاظ عليه.

مجتمع البحث: 

          بعد اطلاع الباحث على كثير من المصورات لنتاجات الرسم والتصوير الخليجي المعاصر بشكل عام، والمتعلقة بمجتمع البحث والمشتغلة على آليات التوظيف الجمالي للتراث في التشكيل، مما أفاد الباحث في الاستعانة ببعض النماذج المصورة وعددها (62) والمتوفرة في بعض المصادر العربية والأجنبية الموجودة في المكتبات ذات الاختصاص، وعلى صفحات الشبكة المعلوماتية (الانترنت) ومواقع التواصل الاجتماعي ومما يُغطي هدف البحث الحالي.

 

عينة البحث: 

بعد إفادة الباحث من الإطار النظري للدراسة الحالية، بجانب الاطلاع على بعض المصادر المصورة العربية والأجنبية التي تمس موضوع البحث الحالي مساً مباشراً، تم اختيار نماذج مصورة من رسوم التشكيليين الخليجيين المعاصرين، المشتغلة على آليات التوظيف الجمالي للموروث الشعبي ووصفها عينة البحث والبالغة (5) أعمال فنية تمَّ اختيارها قصدياً، فقد اختيرت الأعمال الفنية وفقاً لاشتغال النماذج على آليات التوظيف، التي تسهم في الكشف عن الموروث الشعبي في الفن، فضلاً عن النماذج المختارة نجدها قد أعطت إلى حدٍ ما للباحث فرصة للإحاطة بجماليات التوظيف الجمالي للتراث في التشكيل.

منهج البحث: 

 اعتمد الباحث المنهج التحليلي والوصفي في تحليل عينة الدراسة الحالية؛ كونهما مناسبين وطبيعة الدراسة الحالية وهدفها المتمثل في التعرف على توظيف التراث في التشكيل الخليجي، من خلال الوصف العام للمشهد التصويري ومن ثمّ تحديد المنطلقات والآليات الاشتغالية للتوظيف للكشف عن جمالياتها التراثية، عبر التحليل على وفق عناصر التشكيل الفني ووسائل تنظيمها.

أداة البحث: 

 من أجل تحقيق الهدف البحث الرئيسي والمتمثل في محاولة الكشف عن التوظيف الجمالي للموروث الشعبي في التشكيل الخليجي المعاصر؛ اعتمد الباحث على بعض المؤشرات الفلسفية، والفنية، والتقنية التي أحاط بها من خلال المادة العلمية والإطار النظري المتوفر في هذا البحث بوصفها أساس التحليل والمناقشة للأسئلة المثارة، وأيضا للمساهمة في تحليل وتوجيهه الوجهة العلمية والجمالية في مضامين اللوحات عينة البحث. 

الإطاران النظري والتطبيقي للبحث:

من أجل الإجابة على تساؤلات البحث الحالي؛ تم تبويبها من خلال مباحث ثلاثة، يختص الأول بمفهوم الجمال والجمالية في الفكر الفلسفي وهو إجابة عن السؤال الأول، والمبحث الثاني يهتم بملامح الخطاب الفني والجمالي في رسوم دول الخليج العربي وهو الإجابة عن السؤال الثاني، وأخيرا المبحث الثالث والذي ركز على آليات التوظيف الجمالي للموروث الشعبي في التشكيل الخليجي المعاصر؛ وهي كالآتي:

المبحث الأول: الجمال والجمالية في الفكر الفلسفي (المفهوم والوظيفة) 

يكتسب مفهوم التوظيف الجمالي في الفن قيمته المعرفية من تعبيره عن إرادة الفنان؛ لأن الجمال في الطبيعة، هو مصدر للإلهام والإبداع، بوصفه قد اعتمد في طبيعته على المفردات المكونة للعمل الفني، وعلى كيفية تنظيم علاقاتها بعضها ببعض. فقد افتتن الإنسان منذ الأزل بالجمال واستمتع به وبأشكاله في الطبيعة، كاستجابة لما يدركه في محيطه الجغرافي، من عناصر وقوانين وأسس تنظيمية، تسعفه في عملية الفهم والشعور والتوافق والانسجام للتواصل والتفاهم مع الآخر وحصول اتحاد بين جوهر النفس وجوهر الجسد، فتحصل الانفعالات والعواطف التي يحصل بوساطتها الشعور بالجمال (عباس،1987، ص242).

 إذ ينقسم الادراك الجمالي الى ثلاث مراحل نفسية متمايزة، هي الشعور والاستمتاع والتعبير، فحينما يقع البصر على المشهد الجميل يشعر الناظر أولاً بأنه حقاً لمنظر جميل ويحكم بأن ظاهرة جمالية قد أدركت ثم يشعر بالاستمتاع في مرحلة زمانية تالية لتقدير الجمال ثم مرحلة التعبير عنه بطرق جديدة ومتنوعة تختلف باختلاف الخامة والأسلوب والتي تحتفل بجماليات الإيهام البصري (أبو ريان،1979، ص76-77).

وقد قدم الفلاسفة مقولاتهم في الجمال وتعددت الآراء، بتعدد مذاهبهم وتوجهاتهم النقدية والجمالية، فمنهم من يراه في الطبيعة، ومنهم من عثر عليه أو وجده في جوهر الفن، فيما يراه آخرون مجسداً، في عالم المثل. فأخذ الجمال بالاتساع في الفكر الفلسفي؛ فنجد (سقراط 469 – 399 ق. م ) وانطلاقاً من مفهوم الغائية، قد اتسمت أطروحاته الفلسفية والجمالية وفق ما تحققه للإنسان نفعاً ما أو خيراً معيناً، وهو بذلك يحدد الروعة والجودة في الإيهام على وفق مفهوم النسبة، فالجودة تتناسب مع النفع والغاية المرجوة منه وعلى العكس من ذلك فالقبيح والرديء هو الشيء الذي قد صنع بشكل لا يحقق السبب الذي صنع من أجله (أوفسيانيكوف، 1979، ص17).       

في حين نلاحظ أن أفلاطون (430 - 347 ق. م)، أكد أن الجمال الحقيقي لا يوجد إلا في عالم الغيب، العالم الذي لا يدرك إلا بالعقل، وما نراه من جمال في واقعنا المحسوس وفي حقيقته ما هو إلا جمال متغير وزائف وزائل، وهو في هذا إنما يؤكد على أن كل شيء زمني في هذا العالم هو صورة لمثال أبدي موجود في عقل الآلهة، فالمثال هو الشيء بالذات. (أوفسيانيكوف، 1979،ص21)

 في حين نجد أن الجمالية عند أرسطو (384 - 322 ق.م)، قد عنت بالتنسيق والترتيب والتناسب مؤكداً على أن الكائن أو الشيء المكون من أجزاء متباينة لا يتم جماله ما لم تترتب أجزاءه في نظام، وتتخذ أبعاداً ليست تعسفية؛ ذلك لأن الجمال ما هو إلاّ التنسيق والعظمة، بمعنى أن أرسطو يؤكد أن رؤيته للفن بمثابة إبداع وليس اكتشاف وهي التي جعلته يركز على أهمية التناظر والوحدة في منظوره الجمالي الثلاثي الأبعاد (مطر،1962، ص37). في حين اعتبر الجمال بمثابة التأمل الروحي في فلسفة أفلوطين (205-270 ب م) عندما عدّهُ حقيقة علوية لها طبيعة نورانية متحدة بذات الإله الواحد المطلق؛ فالجمال يرجع إلى الصور من وجهة نظر أفلوطين، وإذا ما أراد الفنان بلوغ الكمال في نتاجه الإيهامي، عليه ألاّ يحاكي الطبيعة المرئية، بل يستمد من عالم المعقولات صوره الكاملة المعقولة التي تتشكل بها الطبيعة، وهي كامنة في بواطن المرئيات التي يستعين منها أشكاله، والتي لا يمكن أن يصل إليها إلاّ بعد أن يطهر أشكاله من الجزئيات، لصالح الكليات، وهو ما يسميه أفلوطين بالطهارة الروحية.

 ووصولا إلى أطروحات الفكر الحديث، يرى كَانط (1724-1804) أن الجمال يكمن في الفضاء والحركة الناتجة في المشهد الفني من خلال تفاعل العناصر البنائية أو الطاقة التعبيرية للأشكال الثلاثية الأبعاد التي ندركها. (هورتيك، 1965، ص9) فيما يرى هيغل (1770-1831م) وانطلاقا من مبدأ التناقض على أن العالم وما فيه من ظواهر في حركة مستمرة ومتغيرة مسندا تلك الحركة إلى التناقض الكامل في الأشياء، بل إنه ذهب في ذلك إلى أبعد من هذا بقوله": "إننا لا يمكن أن نتصور أي شكل من أشكال الحركة دون تفاعل ما بين ضدين. بينما رأى كروتشه (1866-1952) أن المشهد الفني وبكل عناصره التكوينية ما هو إلا حدس حسي لعاطفة الإنسان وما العمل الفني إلا تعبير عن تلك العاطفة وما اللوحة الفنية ثلاثية الأبعاد سوى مسببات للحدس ذاته (ري وأرمسون،2013، ص282). بينما رفض الفيلسوف شوبنهاور (1788-1860م) فكرة المحاكاة في الفن، مستنداً إلى أن الجمال يُمكن أن نستمده من العقل وليس من الطبيعة، بناءً على صورة قبلية على العكس من برغسون (1859-1941م) فقد تجاوز العقل مؤكداً عجز العقل عن إدراك الجمال، فالجمال يُدرك عن طريق آخر وهو الوجد أو الجذب فينكشف الجمال للذوق الصوفي كحقيقة لا معقولة فوق نطاق الحس، لا يُدرك الجمال هُنا إلا عن طريق الحدس (برغسون، ب.ت، ص132). 

ومن ثمَّ نلحظ أنَّ أغلب صور الجمال في الفكر الفلسفي وآليات توظيفه في الفن، قد تمحورت حول مقولات الجمال (النافع- الخير –الرائع- الجميل-المتناسق-المثال..) قد اهتمت بإثارة نفس المتلقي في استجابة ذاتية، وبالتالي يصبح الجمال أساساً للحكم على أغلب نتاجات الفن بشكل عام وذات الأبعاد الثلاثية بشكل خاص؛ ليصبح الحكم الجمالي وسيطاً للتفاهم فضلاً عن أنه بمثابة أداة للتواصل بين العمل الفني التصويري والمتلقي النموذجي لحظة فعل القراءة. وانطلاقاً من هكذا مقاربات للجمال والجمالية في الفكر والفلسفة والفن، فإن الأهمية من فهم استجابة الذات وحكمها الجمالي باتجاه أي عمل فني تصويري يدعو المتلقي إلى التعرّف على الصور الجمالية المكونة لأي مشهد تصويري، والتي تستعين بآليات التعبير، والذي اعتمد الفنان فيها توظيف الجمالي، من أجل إحداث تفاعل وتوافق وتحاور وتجانس مع الآخر. 

   فالفن نشاط عملي قبل أن يكون ذهنيا وهو محكوم بواسطة طرائق إنتاجه.. فيصبح الفن متأثراً بهدفه النفعي وهو توظيف الجمال والجمالية، فيصبح شكل الفن معتمداً على الترابط ما بين النشاط الفكري الخلاق والنشاط التطبيقي داخل وحدة متكاملة (ريد، 1986، ص179-180).

المبحث الثاني: ملامح الخطاب الفني في رسوم دول الخليج العربي 

       تعددت التجارب الفنية بتنوع أساليبها الفنية، والأدائية، والتقنية في الرسم العربي المعاصر بشكل عام والرسم الخليجي المعاصر- ملحق رقم (1)- وبحسب المحيط الثقافي والجغرافي الذي يعيش فيه الفنان، المعتمد على مرجعياته الحضارية والإسلامية والشعبية الممتلئة بالتراث والطبيعة العراقية ومشاهدها الاجتماعية. ومن بين تلك الدول العراق الذي أنتج العديد من الأسماء الريادية والتجارب الاصيلة المستلهمة من الجذور الرافدينية القديمة والمتمفصلة بالحضارة الإسلامية وصولاً إلى الأساليب الحديثة في القرن العشرين المنصرم منذ تجارب الفنان عبدالقادر الرسام في عشرينيات القرن العشرين الذي احتفى بتصوير مشاهد الطبيعة العراقية الساحرة وموضوعاتها الاجتماعية (شكل 1)، فقد شهد التشكيل العراقي، تنوعاً في الطرح فكراً وموضوعاً وأسلوباً، محتفلاً بالثقافات المتجاورة والتي تحيد بذاتية الفنان بعدم الاكتفاء بتحليل الواقع العياني والطبيعة وإعادة صياغته، وإنما العمل على التجديد والتحديث في رحلة البحث عن الأعماق، وبالتالي تكثر الأشكال المتحررة من سطوة العلاقات الأحادية التي تسهم في إنتاج أشكال تحتفي بالقيم والدلالات الروحية.

      فالفنان جواد سليم نجدهُ قد استعان بالفلكلور الشعبي والتراث الإسلامي كما في (الشكل 2) وايضاً لوحته كيد النساء؛ على اعتبار أن جواد سليم حاول أن يجد خطابا يمتلك جدلية بين أجزاء المشهد الواحد، لتحقيق الوحدة في المشهد من خلال تنظيم الإيقاع الحركي الحر والمتنامي الذي يضفي صيغة زمانية على التكوين العام (20، الموسوي،2010).

 وبحدود أربعينيات القرن الماضي - وجدت العديد من الدعوات، تشير إلى أهمية استلهام التراث في الفن، عبر عمليات أدائية تهتم بتجاوز الشكل المرئي الوظيفي والاتجاه نحو الشكل المتخيـّل تعيد الإنسان إلى التراث الحضاري القديم (السومري – الأكدي – البابلي – الآشوري..) بجانب التراث الإسلامي. وكما هي حاضرة عند جماعة الرواد. 

     ومروراً بخمسينيات القرن العشرين، ارتبط التشكيل بثقافة الكتاب والكتابة، والقضاء على خرافة الأشباح، لتمتد العلاقة الجدلية ما بين التراث كمقولة والفن كثقافة، كما في أعمال الفنانين العراقيين (محمد غني حكمت – شاكر حسن آل سعيد – سعد شاكر...الخ)، التي ارتكزت على أطروحات الفكر الفلسفي والجمالي؛ فأصبحت الثقافة بمثابة معرفة جمالية بجوهر المرئيات وهي جزء لا يتجزأ عن جسد الحضارة؛ كونها لغة العصر وجذر الإنسان منذُ الأزمنة القديمة كما في تكوينات الفنان شاكر حسن آل سعيد (شكل 3) الذي توصل من خلال بحثه عن الأصالة إلى دراسة البيئة والتراث من خلال الحرف العربي، ودراسة الجدران واللقى الآثارية في العراق، بجانب خزفيات سعد شاكر ذات الطابع الحضاري (شكل 4) ومنحوتات محمد غني حكمت (شكل 5) الذي اقترحها برؤيته الثاقبة، نصوصاً تشكيلية تصور أجساداً لها حضورها، فضلاً عن الفنان فائق حسن وتكويناته الجسدية القريبة من الواقعية والمحملة بخطاب الثقافة (شكل 6). 

      بينما اتجه الفن العراقي في الستينيات والسبعينيات، نحو المفاهيم والأفكار المثالية، بعيداً عن الأقنعة الجاهزة التي تشير إلى العودة إلى التراث وإلى الأعماق، كما في صور الأجساد الأنثوية في رسوم الفنان إسماعيل الشيخلي (شكل 7) الذي نجده مهتما بشكل واضح في موضوع الجسد الأنثوي ومفرداته الريفية (آل سعيد،1990، ص127-128). فضلاً عن تجارب الفنان كاظم حيدر المحتفية بجماليات الرمز الميثولوجي والديني والثقافي كما في تجربة معرض (الشهيد) في ستينيات القرن المنصرم (شكل 8). كذلك الفنان نوري الراوي الذي جعل من المرأة خطابه الأساس في أغلب نتاجاته ذات البعد الشعري. بجانب أعمال الفنان ضياء العزاوي (شكل 9) الذي احتفى بجماليات التصميم، والرمز، والمرموز الحضاري الرافديني، مستلهماً اللون والخط العربي والشعر بأسلوب يقترب من التجريد والترميز والتعبير، ومرورا برسومات محمد مهر الدين و"عادل كامل " (شكل 10)، ورسوم سعاد العطار، الذين اشتغلوا على موضوع الجسد الأنثوي اللذين أحالوه إلى رمز أسطوري ممتلئ بمناخات وطقوس روحانية ذات طابع مثيولوجي مستوحاة من الأختام الإسطوانية السومرية والمتمظهرة أمام تكوينات شبه زقورية، للتزوّد بالمعنى المخفي (الطيف) القابع وراء المرئي في مناطق الصمت (الموسوي،2020). 

        ومرورا بتجارب الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، التي استلهمت من أطروحات الحداثة وما بعدها، تطبيقات – خاصة التفكيكية ونظرية التلقي – التي أثارت مشكلة (موت الإنسان)، وحطمت المراكز الثابتة والايديولوجيات الوضعية وبؤر المعاني المرتبطة بها؛ كما في أعمال الفنانين العراقيين (اسماعيل الخياط (شكل 11) – علي النجار - فاخر محمد (شكل 12) - هناء مال الله- هاشم الطويل (شكل 13) - ليلى العطار - ماهر السامرائي (شكل 14) – سعاد العطار (شكل 15) عبد السادة عبد الصاحب - عاصم عبد الامير..) التي كانت بمثابة دعوة إلى الشكل المفتوح واللعب الحر وإلى الأدائية الفردية والغياب.

       وصولاً إلى نتاجات فناني التسعينيات (كاظم نوير- عبد الكريم السعدون- شداد عبد القهار- شوقي الموسوي (شكل 16) - طه وهيب- هايدي الأوسي (شكل 17) – عبد الكريم السعدون (شكل 18) - سيروان باران (شكل 19) – أحمد البحراني (شكل 20) ريبوار سعيد – فاضل نعمة – صفاء السعدون - زينب عبد الكريم..) كغيرهم من زملائهم التسعينيين، حاولوا خرق قوانين اللعبة التصويرية، عن طريق تقويض المراكز الدلالية وبؤر المعاني، ووصولاً إلى تجارب ما بعد الحرب وسقوط النظام البعثي البائد (ما بعد عام 2003) وما نتجت من تجارب وأسماء مهمة في التشكيل المعاصر.

      وفي حدود التشكيل الخليجي أيضاً تجارب فناني المملكة العربية السعودية، الذين استلهموا مفرداتهم من الموروث الشعبي، وحكايات أهل الصحراء، والبادية العربية بموضوعاتها عن الشجاعة والتضحية والكرم، فأنتجوا أعمالا فنية محمّلة بالتلقائية والعفوية والتعبيرية في أواخر ستينيات القرن العشرين وبأسلوب واقعي تعبيري وتكعيبي، ومن أبرز الفنانين عبدالرحمن السليمان الذي حاول الابتعاد عن تصوير مشاهده الواقعية عن الأسلوب التسجيلي أو الواقعي لصالح التحديث وقريب من التعبيرية والتكعيبية كما في عمله (من أمام المصلى) الذي أنتجه في عام 1980، (شكل 21)، وبين فيه رجالا ونساء وأطفالا مارين من أمام مصلى وهم بزيهم العربي، منفذا بأسلوب قريب من التكعيبية.

       فضلاً عن تجارب الفنان طلال مؤمنة الذي يتنقل بتجاربه من الواقعية إلى التعبيرية ومنها إلى الرمزية، ويتناول مفرداته الشعبية من الواقع المعاش، كما في (الشكل 22). كذلك اشكال الفنانة (رضية البرقاوي) التي انتجت أعمالها بأسلوب انطباعي وتعبيري، تستلهم مفرداتها من الحكايات الشعبية كما في (الشكل 23) فضلاً عن تجارب الفنان فهد مكي الذي يستوحي أشكاله من جماليات الخط العربي والزخرفة الإسلامية في تزيين فضاءات أشكاله، كما في (الشكل 24). 

      بينما نجد أن الفن التشكيلي في دولة الكويت له حضور واسع ومهم على المستوى الخليجي والعربي، إذ نجد أن للتراث الشعبي والإسلامي حضوراً مهماً في نتاجات التشكيل الكويتي لما تمتلكه المنطقة من فنون شعبية، وحرف يدوية، وعمارة تراثية، وصناعات متنوعة كصناعة السفن، والقوارب، والأبواب، وتشييد البيوت، والمساجد، والنجارة، والعمارة المدنية والدينية، وصياغة الحلي، وتشكيلات المعادن، والأحجار الكريمة والمزججة بالمرجان والزمرد، والياقوت واللؤلؤ، والياقوت وغيرها، فظهرت العديد من الأسماء المهمة في التشكيل منذ نهايات العقد الخمسيني من القرن العشرين، منهم الفنان حسين مسيب (شكل 25) وتجاربه الفنية المحتفية بالأسلوب الواقعي التسجيلي للبيئة الكويتية منذ الخمسينيات، وايضاً أحمد زكريا الأنصاري (شكل 26) الفنان التشكيلي الرسام والمهندس والمصمم المعماري والمهتم برسوم فن الكاريكاتير وهندسة العمارة، فضلاً عن الفنان عبد الرسول سلمان الذي اهتم بإبراز تراث مدن الكويت ومجتمعها وملامحها التراثية وموتيفاتها الفلكلورية بأسلوب واقعي (شكل 27)، بجانب تجارب الفنان جاسم بوحمد المعتمد على ذاكرته البكرية في رصد الأحداث وصناعة الأشكال (شكل 28) ووصولاً إلى تجارب الفنان النحات سامي محمد، أحد رواد الفن التشكيلي الكويتي الذي قدّم العديد من التجارب الفنية ذات النزعة الإنسانية الذي قدّم الإنسان بكل حالاته السيكولوجية والمعنوية وبموضوعات متنوعة وبأسلوب واقعي يقترب بين الحين والآخر من التعبيرية في الشكل والمضمون لصالح جماليات التعبير والترميز والتحديث (شكل 29)، بجانب تجارب محمد الفارس (شكل 30) الذي اهتم بجماليات البيئة والعمارة الكويتية، بالإضافة إلى الخزافة جميلة جوهر والرسامة عطارد الثاقب والفنانة أميرة أشكلاني (شكل 31) الذين قدموا تجارب مهمة ذات نزعة إنسانية تعبيرية.

       فضلاً عن الفنان عيسى البدر وأحمد النفيسي وعيسى محمود بو شهري، وأيضاً الفنان معجب الدوسري المهتم بجماليات الزخرفة الإسلامية والفنان النحات خليفة القطان والفنان محمود الرضوان المهتم بالأسلوب الهندسي في توظيف مفرداته التراثية. وعند الحديث عن التشكيل في قطر نلاحظ حضور الحياة الشعبية سواء في البادية والصحراء أم في البحر أَم المدينة والحكايات التي تدوِّن المجالس والمناسبات والألعاب والآداب والمعارف في الفن القطري، من هذه الأسماء المهمة الفنان الرائد جاسم زيني الذي يحتفي بالأسلوب الواقعي والتعبيري في رسم لوحاته ذات الطابع الاجتماعي الشعبي (شكل 32) وهو من مؤسسي الفن التشكيلي القطري بوصفه أول فنان قطري يحصل على الشهادة الاكاديمية في الفنون التشكيلية عام 1968مـ وهو مؤسس الجمعية القطرية للفنون التشكيلية ورئيسها سابقاً.

      وتجربة الفنان يوسف أحمد المهتم بجماليات التجريد والتجريب منذ نهايات ثمانينيات القرن العشرين بحدود موضوعات اجتماعية بيئية ثقافية معاصرة (شكل 33) وتجارب الفنان إبراهيم الخلفان المهتمة بالبيئة القطرية وبالأسواق الشعبية على وجه الخصوص وبالحياة اليومية البسيطة الحاضرة في ذاكرة الفنان البكرية والتاريخية، والفنانة التشكيلية مريم الملا (شكل 34) التي توظف شخصية المرأة كل حالاتها الإنسانية في أغلب تجاربها وبالاعتماد على التجريد والترميز، وتجارب الفنان عيسى الملا هي الأخرى تهتم بتوظيف الحرف العربي والبيئة الاجتماعية القطرية في مشاهده التصويرية (شكل 35). 

      بينما نجد أن التشكيل البحريني، قد اعتمد بصورة رئيسة على جماليات المكان (المدينة والبحر والبادية)، كما في أعمال الفنان عبد الله المحروقي وهو من جيل الرواد والمؤسسين للتشكيل في البحرين في سبعينيات القرن العشرين والمهتم برسم ملامح الشخوص بأسلوب تعبيري فضلاً عن المشاهد الطبيعية الزاخرة بالمفردات الطبيعية (شكل 36)، وتجارب الفنان راشد الخليفي المهتم بالموروث الشعبي ومبدع الفن الديلموني، إذ ركز عمله على الجانب التعبيري لإبراز طاقات اللون والخط والمكان (شكل 37) بجانب أعمال الفنانة بلقيس فخرو ذات الطابع التجريدي والتجريبي التي تعشق جماليات المكان المتخيل فتسيح بذهن المتلقي نحو فضاءات الرمز الممتدة بالفكر لحظة فعل التأمل والقراءة (شكل 38). وهنالك تجارب بحرينية مهمة أخرى منها تجربة محمد المهدي المشتغل على التجريد والتعبير المعتمدة على أطروحات ما بعد الحداثة المهتمة بالتفكيك والاختلاف (شكل-39).

    ومروراً بأعمال الفنان عمر الراشد المهتمة بمفردات الحياة الاجتماعية بأسلوب تعبيري تجريدي، يحتضن التراث والموروث الشعبي المتداول سواء فيما يخص الأزياء أو الألعاب الشعبية أو الأقوال والشعر أو الموروثات الفلكلورية في الحكاية والقصة والشعر (شكل 40)، وتجربة الفنانة لولوه بنت عبدالعزيز آل خليفة، ذات الطابع التعبيري المحتفي بالشخوص والمفردات الاجتماعية وما يحيطها من بيئة بحرينية شعبية، والاحتفاء بجماليات المكان، (شكل 41) مع تجربة الفنانة مروه بنت راشد آل خليفة الاجتماعية ذات الطابع السوسيولوجي المهتم بالإنسان وحالاته السيكولوجية والاجتماعية، المتمفصلة بالواقع الاجتماعي المعاش وبأسلوب تعبيري فضلاً عن أعمال فنانين آخرين.

بينما نجد في التشكيل العُماني، حضوراً فاعلاً للحكاية الشعبية ولمشاهد الأسواق الشعبية والمناظر ذات الطابع التراثي، في المراحل التأسيسية المتعلقة بمجموعة من الموضوعات الاجتماعية التي اهتمت بالحكاية وصولاً إلى لحظة تأليف الحكاية التي تعتمد جماليات السرد، كما في تجارب التشكيلي إدريس إبراهيم الهوتي، والتشكيلي يونس الرئيس (شكل 42)، والفنانة ريا المنجية (شكل 43) وآخرون، الذين اهتموا بتمثيل الحياة الصامتة، بجانب مشاهد الطبيعة الصافية ذات أسلوب طبيعي وانطباعي للفنان عبد المجيد كارو (شكل 44) في مدينته التراثية مطرح، فضلاً عن أعمال الفنانة نادية البلوشية ذات الأسلوب الانطباعي المهتم بتسجيل الانطباع الآني.

 في حين نجد أعمال فنانين آخرين كالفنان صالح العلوي، والفنان حسن بورك (شكل 45) المهتمين برسم المشاهد ذات الطابع الفلكلوري، المتمثلة بالبيوتات القديمة، والقلاع المحصنة، والأبراج وبعض الموضوعات الواقعية الشعبية، وصولاً إلى أعمال الفنان يوسف النحوي (شكل 46) الذي اهتم بصورة الحصان والمرأة، بوصفهما رمزان للأصالة والجمال، عندما اعتمدها كمفردات رئيسة في أغلب أعماله الواقعية، بجانب أعمال الفنان الراحل حسين الشيخ (شكل 47) المهتمة بسرد موضوعات الفلكلور العُماني كما في لوحاته (عازف المزمار، الطبال، الزي العماني، طبيعة عمانية). فضلاً عن الأعمال التعبيرية للفنان حسن مير، المحتفلة بالجسد وأوضاعه الإيمائية المنفعلة باللون والخط والشكل والحركة بجانب تجارب الفنانة عالية الفارسية المحتفية بالتراث ذات النزعة الإنسانية (الرجل والمرأة)، المعتمد على جماليات التعبير والتعبيرية عن الواقع الاجتماعي العُماني الزاخر بجماليات المكان والأزياء والموروث الشعبي (شكل 48)، فضلاً عن تجارب الفنانة مريم الزدجالية ذات النزعة الحداثوية التي تعتمد الترميز والتجريد والتبسيط في انتاج اشكالها وتكويناتها المحتفية بالتراث والموروث (شكل 49).

بالإضافة إلى أعمال الفنانة رابحة محمود (شكل 50) ذات النزعة الإنسانية وموضوعاتها المتمحورة حول النساء وعوالمها الاجتماعية الحالمة، فضلاً عن تشكيلات الفنانة حنان الشحية (شكل 51) التي أكدت على البانورامية لمشاهد لوحاتها ذات الطابع الحكائي التي نشهد فيها مشاهد متعددة في لوحة واحدة، تأكيداً على إبراز التفاصيل.

 ووصولاً إلى التشكيل في الإمارات العربية المتحدة، الذي تأسس مع تأسيس جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في الشارقة عام 1980 التي أفرزت تجارب إماراتية مهمة في عالم التشكيل تحتفي بالموروث، منهم الفنان الرائد عبد القادر الريس، عاشق الحياة الاجتماعية ومفرداتها البسيطة سواء في رسم المشاهد المدنية ومفرداتها (البيوت القديمة والشبابيك والأبواب القديمة والنقوش) وبأسلوب مدهش يجمع ما بين الأصالة والمعاصرة، التي من شأنه أن يقدم مشاهد بانورامية عن مدنه التراثية وقيمها الجمالية (شكل 52)، بجانب أعمال الفنان عبد الرحيم سالم المحتفي بالأسلوب التجريدي التعبيري المعاصر الذي يعتمد أطروحات ما بعد الحداثة وجماليات التقنية والأداء الفني الذي أنتج العديد من الأعمال الفنية ذات الطابع التراثي مع جماعة الأربعة في عام 1981 (شكل 53)، مروراً بتجارب الفنانة نجاة مكي التي تتبنى أسلوباً غنائياً في المعالجات اللونية، والخطية وتمسكها بجماليات الموروث وحكايات مدنها الشعبية، وازقتها الضيقة، وبيوتها القديمة ونسائها، فقد أسست الفنانة أسلوبها المميز في تبني القضايا الاجتماعية بصفتها خامة أساسية في موضوعاتها لتكون من أهم فناني الإمارات على مستوى التشكيل ومن أهم رواد حركة التشكيل المعاصرة (شكل 54)، بالإضافة إلى الفنان الخطاط والرسام محمد مندي عاشق للحرف العربي في خطه وزخرفته، إذ تقوم تجاربه التشكيلية على إدخال الحرف كمفردة رئيسة في فضاء اللوحة وعدهُ جوهر الجمال مع التكوينات الزخرفية والأشكال الهندسية والنباتية، المنتشرة في فضاء مشاهده التصويرية (شكل 55). 

فضلاً عن أعمال الفنان محمد الاستاذ ذات الطابع الكرافيكي المحتفي بجماليات التصميم (شكل 56) بجانب أعمال الفنان النحات مطر بن لاحج (شكل 57) الذي اهتم بجماليات الفضاء في فن النحت وبحدود موضوعه الخيول العربية بوصفها تمثل الأصالة العربية، ذات الصبغة الزرقاء الغامقة واللون الأحادي مع اهتمامه بالحجم الكبير في منحوتاته البرونزية العالية، فضلا عن اهتمامه بمشاهد الصيادين وشباكهم وقواربهم وحياتهم الاجتماعية وأيضاً الحياة البدوية ومساحات الصحراء ومفرداتها (الجمل، الواحات، النخيل). 

أما التشكيل في اليمن، ومنهم الفنان هاشم علي الذي يعد أحد رواد التشكيل اليمني المعاصر، والذي حاول أن يؤسس حركة التشكيل منذ افتتاحه مرسما للفن التشكيلي اليمني عام 1970، إذ اهتم برسم الحياة الاجتماعية الخاصة بالبسطاء (الفقراء، الفلاحين، بائعي اللبن والبيض والخبز، الصيادين)، وأيضاً رسم المناظر الطبيعية والأسواق الشعبية ومحلات الحرف الشعبية (شكل 58). بجانب أعمال الفنان عبد الجبار نعمان المحتفية بجماليات اللون الواقعي الرومانسي ودلالاته الأكاديمية (شكل 59)، والفنان عبد الفتاح عبد الولي، الذي عشق فن الرسم وفن الكاريكاتير بوصفه أحد الفنون الناقدة للمجتمع اليمني وفق آليات التعبير. فضلاً عن تجربة الفنان محمد سبأ الذي استلهم من الموروث الشعبي جميع مفرداته، سواء من مدنه القديمة أو أسواقه الشعبية (سوق الملح، سوق الطعام، سوق الأقمشة، سوق حطب، سوق الصباغة)، فأنتج مشاهد تصويرية من اليمن بأسلوب واقعي تسجيلي (شكل 60). فضلا عن أعمال الفنانة ’منة النصيرية ذات النزعة الإنسانية المتمرحلة ما بين الواقعية والتعبيرية وصولاً إلى التجريب والتجريد، إذ نجد حضور صورة المرأة في جميع حالاتها وصفاتها وهمومها ومعاناتها وحياتها اليومية في أغلب نتاجاتها (شكل 61)، مروراً بتجربة الفنان الغرافيكي علي الذرحاني المحتفي بالتراث الشعبي وفق آليات التصميم والترميز والتعبير، مهتما بإدخال الحروفيات في اللوحة التشكيلية (شكل 62)، وجميع الأعمال الفنية السابقة الذكر مدرجة في ملحق رقم (1) في نهاية البحث. 

المبحث الثالث: آليات التوظيف الجمالي للموروث الشعبي في التشكيل الخليجي المعاصر

      في هذا الجزء، سوف يقوم الباحث بتحليل عينة من أعمال الفنانين الخليجين قوامها خمسة أعمال، بصفتها نماذج لتوظيف الموروث الشعبي في التشكيل الخليجي المعاصر توظيفاً جمالياً. تم اختيار النماذج بشكل قصدي بواقع عمل واحد من الدول الآتية: العراق، وقطر، والكويت، والمملكة العربية السعودية، وسلطنة عُمان. وسوف يتم تحديد البيانات الآتية لكل عمل والمتمثلة في: اسم الفنان، وعنوان العمل، والدولة، وتاريخ والإنجاز، والخامة المستخدمة في العمل الفني. وقد اعتمد البحث على مدخلين أساسين: الوصف البصري، والتحليل الفني من أجل الوقوف على آليات التوظيف الجمالي للمورث الشعبي في التشكيل الخليجي المعاصر.

 

 

الوصف البصري: صور الفنان مشهداً حكائياً مكونا من شخصية رئيسة متمثلة بالمرأة المستلقية على الأَريكة وبجانبها ثلاثة شخوص رجال بوضعية القرفصاء داخل ردهات في صندوق الملابس، وفي مقدمة المشهد توجد بعض الإكسسوارات (أواني معدنية).


التحليل الفني: اعتمد الفنان على دلالات الخط المنحني وجمالياته الحركية والذي يؤلف مع العناصر الأخرى، تكوينات دائرية ممتلئة بطاقات حركية كامنة فيها، إذ صوّر الفنان في هذا المشهد التصويري ودوّن فيه حكايات التراث الشعبي، وفق رؤيته الذاتية الحدسية، المُشتغلة على الجدل والجدلية بين ثنائيات الوجود (المرأة والرجل – الأسود والأبيض)، ابتداء من صورة المرأة مروراً بالشخوص الثلاثة المحجوزين داخل الصناديق، بجانب الاكسسوارات الأخرى الموزعة في المساحة، فالمشهد نجده قد تم استلهامه من وحي ذاكرة التراث الشعبي.. عندما كثـّف فيها العديد من العلامات والرموز الفلكلورية والحضارية والمفردات الشعبية (المرأة، الكرسي، الكؤوس، الهلال، الفواكه، الحرف العربي)، وهذا وفق بناء درامي رصين، يقترب من أسلوب مدرسة بغداد في التصوير الإسلامي....). من هنا نجد أن جواد سليم، حاول تجاوز الواقعي والطبيعي، لصالح التعبيري الذاتي المرتبط بالقيم الجمالية، مما يدل على أن الفنان قد اتخذ مساراً جمالياً احتفالياً نحو الفلكلور، يُساهم في مساعدة الذات على البحث والتنقيب في سرائر الذاكرة البكرية في استجلاب جماليات من الماضي السحيق. وأيضا لملامح شخوصه ووضعيات أجسادهم المكورة، أحدثت التوازن في البنية التركيبية، وأعطتنا إشعاراً بأن الفنان في كل المرات يلجأ كراوٍ إلى ترجمة النص الأدبي بأسلوب تعبيري، شعري.
 

 

الوصف البصري: صوّر الفنان القطري مشهده التصويري وضمنه شخصيتين تجمع أخويين، الأولى الفتاة الأخت وهي ترتدي زيها الشعبي الخليجي (العباءة المذهبة) وهي تخيط بالقماش الأبيض الذي هو رداء الصبي المستلقي أمام المشهد بزيه الأبيض الشعبي وغترته وعقاله.


التحليل الفني: صور الفنان جاسم مشهداً مُغلقاً داخل منزل، ومنحه السيادة للمرأة التي تخيط اللباس وتتوسط المشهد التصويري وتسرد حكايا الزمن تعبيراً عن الحياة القطرية الممثلة بالتجربة الإنسانية. إذاً نجد الفنان القطري قد أكد على الاهتمام بالبعد السيكولوجي لشخوصه (الأخوين) والتعبير عن حالاتهما الإنسانية. ونلاحظ بأن هنالك تتابعا لأجزاء المشهد الاجتماعي في هذا النموذج، وهي مترابطة مع بعضها البعض بفعل الانسجام اللوني، وبالتالي نجد الفنان قد ركز اهتمامه على عنصر الحدث وهو العلاقة الأخوية بين الأبناء، أحد سمات السرد الحكائي المهمة، حيث تتضارب الأحداث الثانوية مع الأساسية لتؤلف معاً موقفاً جدلياً للصراع، فكلما زاد هذا الصراع في حدود انتظار انتهاء عمل الخياطة كلما زاد هذا الصراع أو ما نسميه بـ(الحبكة) التي تكون مثقلة بالمعاني.


هذا المشهد الواقعي الشعبي وغيره من الأحداث اليومية من الحياة الاجتماعية الأخرى، انطوى على قدر كبير من التخطيط المدروس الخاص بتنشيط جماليات التوظيف للتراث في اللوحة التشكيلية من خلال التخييل والتضمين والتأويل والتشخيص الذي اعتمدها الفنان في تكوين أشكاله؛ وبالتالي حصول شيء من الانسجام والتحاور بين الأخوين من جهة وبين الفنان والمتلقي لحظة فعل التلقي؛ مما يكشف لنا عن آليات التوظيف الجمالي لمفردات التراث في الفن التشكيلي باتجاه التعبير بدل التسجيل الحرفي من أجل التحديث والتبسيط والتخييل. 
 

 

الوصف البصري: صوّر الفنان أربعة أشخاص تحت خيمة الشعر العربية، نلاحظ وجود الرجل في الجهة اليمنى للمشاهد وهو بزيه العربي التراثي، وبجانبه رجل وأمامه أدوات القهوة العربية، وعلى الجهة اليسرى يوجد رجلان بأزيائهم العربية.


التحليل الفني: اعتمد الفنان الكويتي على ذاكرته البصرية في رصد أحداث موضوعة الواقعية وصناعة أشكاله الآدمية، فالفنان حاول أن يستلهم من تراثه الشعبي مفرداته ووظّفها جمالياً في تكويناته البصرية، فمثلاً نجد أن غطاء الرأس الذي يسمى بـ (الشماغ) مع العقال أحد المفردات الشعبية الأصيلة، فضلاً عن الخيمة العربية وتفاصيلها وأيضاً الدلة والقهوة والفناجين كلها مفردات واقعية وتراثية. 


      تميزت أعمال الفنان الواقعية بجماليات التراث الشعبي في حدود موضوع بيت الشعر في فضاء مكاني أحادي وهو الصحراء، وما تحويه من واحات صغيرة ومساحات صفراء كبيرة. وهذا ما وجدناه متمركزا على مجمل الشخصيات الرئيسة، التي مثلت مركز ثقل المشهد الفني في السياق العام للتكوين ذي الطابع السردي؛ إذ يرسم الفنان من حيث يبدأ بالشروع بالتخيّل للموضوع بعد قراءة النص الواقعي. وإذا تتبعنا مدلولات المكان للكشف عن الأنساق الجديدة الأخرى، سوف نجدهُ بين ثنائية المكان الأليف المحدود والمكان المفتوح، متمفصلا مع السمة المسرحية الواضحة على المشهد ككل، والذي يحوي مجمل مكونات التصويرة. مما يدل على أن الفنان الكويتي كان بمثابة ممثل ومخرج وراوٍ في نفس الوقت لاعتماده على المنظور البانورامي المتراكم والذي يستوعب آليات السرد وجمالياته التقنية والفنية. 
 

 

الوصف البصري: صور الفنان السعودي مشهداً واقعياً يحوي أشكالاً آدمية بحدود ستة أشخاص، يلاحظ في الجهة اليمنى وجود رجل بزيّه الشعبي وهو في وضعية المسير، بينما يوجد رجل قريباً منه في العمق وهو خارج من مصلى، بالإضافة إلى وجود شخص مع طفل في مركز المشهد متجه نحو امرأة جالسة بخمارها الأسود وعباءتها السوداء، في حين نلاحظ رجلاً آخر في الجهة اليسرى للمشاهد وهو يتواصل مع المرأة الجالسة. توشح المشهد بتدرجات البني وبأسلوب تكعيبي.


التحليل الفني: اهتم الفنان السعودي بإبراز المفردات التراثية الموروثة (الزي العربي، البيوتات، الكوفية، الطرق الشعبية..) في ملابس الرجال والنساء والأطفال من أمام المصلى، معتمداً على الجماليات التكعيبية في الاهتمام بالتوظيف الجمالي لهذه المفردات التراثية، من أجل إبراز صور الحياة الاجتماعية الواقعية في المدن التراثية القديم. حيث اقترح الفنان السعودي أشكاله بوصفه منظوراً متراكماً، ينفتح على جماليات الأسلوب التكعيبي، خارج الأطر المفاهيمية التقليدية، لصالح الترميز والتعبير للمشهد الشعبي.. ونلاحظ أن مفردات الواقع قد أصبحت في متناول الفنان ذهنياً وجمالياً، فقام بإعادة صياغتها وتركيبها وتشكيلها وتوظيفها وفق أسلوب الفن الحديث يناهض التسجيل لصالح الترميز؛ ليتجه بنا الذهن إلى فضاءات جديدة لدى المتلقي تزخر بالحكايات الشعبية والموروث الحضاري.
 

 

الوصف البصري: رسمت الفنانة أربع نساء من سلطنة عُمان، يرتدين زياً عمانياً مزركشاً بالزخارف والألوان ذات الأقلام المتوازية فضلاً عن ارتدائهن الخمار على وجوههن، ضمن أجواء لونية احتفالية.


التحليل الفني: اعتمدت الفنانة الشحية على جماليات التعبير والتعبيرية في تمثيل مشهدها البصري مستعينة بمفردات المشهد، ذات الطابع التراثي الاحتفالي وما يحويه التراث من جماليات وقيم وأبعاد مفاهيمية واجتماعية وسيكولوجية، احتفت الفنانة بتصوير المشاهد والموضوعات الاجتماعية الشعبية بأسلوب تعبيري يبتعد عن أي تقرير أو تسجيل لصالح الترميز. حيث إن الفنانة مهتمة بإبراز الموروث وتوظيفه جمالياً لتمنح المشهد شيئا من الشعرية لحظة اعتماد جماليات التصميم الخالي من تفاصيله. الفنان العُماني في بدايات حركة التشكيل نجده احتفى بالمشهد البصري وأفرغه من عناصر الحياة لأجل التمسك بالشعرية التي ترحل ذاكرتنا إلى الماضي. 


إن الجمالية في التوظيف لمفردات التراث في هذا المشهد إذا ما قورنت بالأخريات، نجد فيها أن الفنانة الشحية، قد اعتمدت تقريباً على تراكيب التجمعات النسوية بدون ملامح تفصيلية مع بعض الأشكال الهندسية المجردة، المنسوجة من الذاكرة البكرية، كونها صوراً متخيلة بشكل خاص زوقت بأسلوب زخرفي جميل، مُستعينة بذلك بعناصر التراث الشعبي المتمركز في الأزياء العمانية بأسلوب شاعري.
 

من خلال الوصف البصري والتحليل الفني السابق لكل عينة الدراسة الحالية، توصل الباحث إلى جملة من النتائج أهمها:  
1- تمكن الفنان التشكيلي الخليجي اقتراح تكويناته من مفردات موروثه الشعبي الحاضرة في الحياة الاجتماعية المعاصرة، من أجل أن يمنح أشكاله الآدمية وصفاً ذاتياً لحكايا شخوصه، كما في أغلب نماذج العينة.
2- وظّف الفنان التشكيلي العديد من المفردات التراثية الموروثة في الفن، ومنحها أبعاداً جمالية، من أهمها (الزي العربي، البيوتات القديمة، الأزياء الشعبية، الحكايات الشعبية، العادات، التقاليد، العقال، الأسواق الشعبية..) كما في أغلب نماذج العينة.
3- استعان الفنان الخليجي بمفردات الموروث الشعبي من أجل الحفاظ عليه والتغني به، بوصفه حضارة وتاريخ شعوب وهوية ومنهج حياة تنتقل عبر الفن من جيل إلى آخر، كما في جميع نماذج العينة.
4- اهتم الفنان الخليجي بجماليات التوظيف للتراث في تجاربه المعاصرة ومنح شخوصه دور البطولة في الأحداث الاجتماعية، معتمداً على جماليات الانسجام والاتساق والتبسيط والتعبير، كما في الأشكال (1 – 2 -3).
5- أكد الفنان التشكيلي في دول الخليج العربي على جماليات الأسلوب التعبيري لشخوص مشاهده التصويرية، بوصفه أسلوباً معاصراً يفيد الفنان في التخلي عن بعض التفاصيل والاهتمام بالفكرة والتبسيط على حساب التسجيل والتجسيم. كما في الأشكال (1 – 5).
6- اعتمد الفنان الخليجي على النزعة الإنسانية في إبراز الموروث الشعبي ومفرداته الاجتماعية مُحتفلاً بالتجمعات البشرية على حساب الموضوع، كما في الأشكال (1- 3).
7- احتفى الفنان التشكيلي بصورة المرأة في أغلب مشاهده، تأكيداً منه على أهمية المرأة وقدسيتها في المجتمع الإسلامي، كما في الأشكال (1-2-5).
8- منح الفنان الخليجي تكويناته جماليات تصميمية وبانورامية وتعبيرية ورمزية من خلال اهتمامه بعمليات التبسيط والاختزال، حيث استلهم الفنان مفردات التراث من الموروث الحضاري والحكايات والقصص والحياة اليومية الواقعية والنصوص الأدبية والأزياء الشعبية والبيوتات التراثية ومفردات التراث الأخرى، كما في الأشكال (1-3-4).
9- اهتم الفنان بآليات التوظيف الجمالي للتراث الشعبي والمتعلق بالحياة الاجتماعية البسيطة المتعلقة بـ (الرجل والمرأة)، كما في الأشكال (1-2).

الخاتمة:
حاول البحث الحالي تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة تتمثل في: تتبع مفهوم الجمال والجمالية في الفكر الفلسفي من حيث المفهوم والوظيفة، ومن ثم الكشف عن ملامح الخطاب الفني والجمالي في أعمال فناني دول الخليج العربي، وأخيراً التعرف على آليات التوظيف الجمالي للموروث الشعبي في التشكيل الخليجي المعاصر. وفي ضوء ما تقدم، يستنتج الباحث ما يلي: 
1. اعتمد الفنان الخليجي المعاصر على ذاكرته البصرية في ترسيم أحداث موضوعاته الواقعية وصناعة أشكاله الآدمية المستلهمة من تراثه الشعبي والموظفة جمالياً في تكويناته البصرية.
2. اهتمام الفنانين العرب بإبراز الموروث الشعبي وتوظيفه جمالياً في نتاجاته الفنية، لتمنح المشهد شيئا من الشعرية لحظة اعتماد جماليات التصميم الخالي من التفاصيل التجسيمية، كما في أغلب نماذج العينة.
3. انطلق الفن العربي والخليجي، في تأسيس التجارب الفنية التراثية من المشاهد الواقعية المتمفصل بالحياة الاجتماعية، إلا أنه قصد اعتماد آليات الترميز والتعبير.
4. يعد الموروث الشعبي في التشكيل الخليجي، أساس المشاهد الفنية المقترحة في التشكيل العربي، بفعل قوانين السرد الذاتي.
5. ابتعاد التشكيل الخليجي والعربي بشكل عام، عن كل معطيات الشكل الواقعي التسجيلي، المحدد بالصيغ المكانية، لصالح المخيلة وآليات التعبير للامتداد بذهن التلقي إلى خارج الحدود الواقعية.
6. اعتمد التشكيل العربي المعاصر على جماليات التنوع في تشكيل المفردات الشعبية، مما يدل على اهتمام الفنان الخليجي بالتراث والحكايات الشعبية للحفاظ عليه وتوظيفه جمالياً في الفن.
7. اعتمد التشكيل العربي والخليجي على وجه الخصوص على تكثيف الأشكال الآدمية في تكويناتهم ذات الجنبة التراثية بأسلوب تعبيري.

التوصيات والمقترحات: 
في ضوء ما أسفر عنه البحث الحالي من نتائج واستنتاجات، يوصي الباحث بما يلي:  
● يوصي الباحث بتقصي مفاهيم الجمال والجمالية وآليات التوظيف في التشكيل المعاصر، استكمالا لمفهوم جماليات المكان والزمان المتخيّل. 
● الاعتماد على أصول التراث الشعبي للكشف عن بعض الجوانب الجمالية في الفن.
● استكمالا لمتطلبات البحث الحالي إجراء مزيد من الدراسات في تقصي جماليات التصميم في الرسم العربي المعاصر.
 


المراجع:
أبو ريان ، محمد علي. (1979). مقدمة في الدراسات الجمالية. دار المعارف الجامعية، بيروت.

احسان، محمد الحسن. (1999). موسوعة علم الاجتماع  (ط.1). الدار العربية للموسوعات، بيروت.
ادونيس. (1993). النصّ القرآني وآفاق الكتابة (ط. 1). دار الآداب.
آل سعيد، شاكر حسن. (1990). :مقالات في التنظير والنقد الفني. دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والاعلام، الجمهورية العراقية.
أوفسيانيكوف، م. (1979). موجز تاريخ النظريات الجمالية (باسم السقا، ترجمة، ط.2). دار الفارابي، بيروت.
البستاني، فؤاد حزام. (1996). منجد الطلاب (ط. 5). المطبعة الكاثوليكية، بيروت.

برغسون، هنري (ب.ت.). الفكر في الواقع المُتحرك (سامي الدروبي، ترجمة). مطبعة الانشاد، دمشق (1972).
دسوقي، كمال. (1988). ذخيرة علم النفس (المجلد الاول). مطبعة الإهرام ، القاهرة.
رزوق ، أسعد. (1977). موسوعة علم النفس. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مطابع الشروق، بيروت.
ري، جوناثان، وأرمسون، وج. (2013). الموسوعة الفلسفية المخصرة (فؤاد كامل، وجلال العشري، وعبد الرشيد الصادق محمودي، ترجمة). المركز القومي للترجمة. (1960).
ريد ، هربت. (1986). الفن والمجتمع (فارس متري ضاهر، ترجمة). دار القلم ،بيروت، لبنان.
روزنتال، م.، ويودين، ب. (1985). الموسوعة الفلسفية (سمير كرم، ترجمة؛ ط 5). دار الطليعة للطباعة والنشر.

عامر، سوسن. (1987). مجلة التراث الشعبي. (2) ربيع، دار الشؤون الثقافة العامة، وزارة الثقافة والاعلام، الجمهورية العراقية.

عباس ، راوية عبد المنعم. (1987). القيم الجمالية. دار المعارف للنشر والطباعة، الاسكندرية.

العنتيل، فوزي. (1965). الفولكلور ماهو: دراسات في التراث الشعبي (ط.1). دار المعارف بمصر للطباعة والنشر، مكتبة الادب الشعبي، القاهرة.

مطر، أميرة حلمي. (1962).  فلسفة الجمال. دار الفكر للطباعة والنشر، القاهرة.
الموسوي، شوقي. (2010). اشارات الجسد المقدس في تكوينات جواد سليم. جريدة الزمان، العراق.
الموسوي، شوقي. (2010). جغرافية الصمت في تجارب عادل كامل. جريدة الزمان، (3543)، العراق.
المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم . (1989). المعجم العربي الأساسي. توزيع لاروس.
منظور، أبن. (1968). لسان العرب. الجزء (9).  دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر، بيروت.

هورتيك ، لويس. (1965). الفن والأدب (بدر الدين قاسم الدفاعي، ترجمة). وزارة الثقافة والإرشاد القومي.
وطفة، علي أسعد. (2001). مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، مجلة فكر ونقد، (45) نوفمبر، 95-118.

References:

Abbas, Rawya Abdel Moneim. (1987). Aesthetic Values (In Arabic). Dar Al Maaref for Publishing and Printing, Alexandria.

Abu Rayyan, Muhammad Ali. (1979). Introduction to aesthetic studies (In Arabic). Dar Al Maaref University, Beirut.

Adonis. (1993). The Qur’anic text and horizons of writing (1st ed.) (In Arabic). House of Arts.

Al-Antil, Fawzi. (1965). Folklore What It Is: Studies in Folklore (1st ed.) (In Arabic). Dar Al-Maaref in Egypt for Printing and Publishing, Library of Popular Literature, Cairo.

Al-Bustani, Fouad Hizam. (1996). Upholstered Students (5th ed.) (In Arabic). Catholic Press, Beirut.

Al-Mousawi, Shawqi. (2010). Signs of the sacred body in Jawad Selim’s compositions (In Arabic). Al-Zaman Newspaper, Iraq.

Al-Mousawi, Shawqi. (2010). The geography of silence in Adel Kamel’s experiences (In Arabic). Al-Zaman Newspaper, (3543), Iraq.

Amer, Sawsan. (1987). Popular Heritage Magazine (In Arabic). (2) Spring, House of General Cultural Affairs, Ministry of Culture and Information, Republic of Iraq.

Arab League Educational, Cultural and Scientific Organization.  (1989). Basic Arabic dictionary (In Arabic). Larousse distribution.

Al Saeed, Shaker Hassan. (1990). Articles on theorizing and artistic criticism (In Arabic). House of General Cultural Affairs, Ministry of Culture and Information, Republic of Iraq.

Bergson, Henri (n.d.). Thought in Moving Reality (Sami Al-Droubi, Trans.) (In Arabic). Al-Anshad Press, Damascus (1972).

Desouky, Kamal. (1988). Psychology Repertoire (In Arabic) (Volume I). Al-Ahram Press, Cairo.

Hornby, A.S. (1974). Oxford Advanced Learners Dictionary of Current English.  Oxford University Press.

Hortic, Louis. (1965). Art and Literature (Badr al-Din Qasim al-Difadi, Trans.) (In Arabic). Ministry of Culture and National Guidance.

Ihsan, Muhammad Al-Hassan. (1999). Encyclopedia of Sociology (1st ed.) (In Arabic). Arab House of Encyclopedias, Beirut.

Manzur, Ibn. (1968). Lisan al-Arab (Arabic Dictionary) (In Arabic). V. (9). Dar Sader and Dar Beirut for Printing and Publishing, Beirut.

Matar, Amira Helmy. (1962). Philosophy of Beauty (In Arabic). Dar Al-Fikr for Printing and Publishing, Cairo.

Ovsyannikov, M. (1979). A Brief History of Aesthetic Theories (Bassem Al-Saqqa, Trans.; 2nd ed.) (In Arabic). Dar Al-Farabi, Beirut.

Razouk, Asaad. (1977). Encyclopedia of psychology (In Arabic). Arab Foundation for Studies and Publishing, Al-Shorouk Press, Beirut.

Read, Herbert. (1986). Art and Society (Fares Mitri Daher, Trans.) (In Arabic). Dar Al-Qalam, Beirut, Lebanon.

Reay, Jonathan, and Armson, J. (2013). The Short Philosophical Encyclopedia (Fouad Kamel, Jalal Al-Ashry, & Abdul Rashid Al-Sadiq Mahmoudi, Trans.) (In Arabic). National Center for Translation. (1960).

Rosenthal, M., and Yudin, B. (1985). The Philosophical Encyclopedia (Samir Karam, Trans.; 5th ed.) (In Arabic). Dar Al-Taliah for Printing and Publishing.

Watfa, Ali Asaad. (2001). Approaches to the Concepts of Modernity and Postmodernism (In Arabic). Journal of Thought and Criticism, (45) November, 95-118.

 

ملحق 1: أعمال فنية تعكس ملامح الخطاب الفني في رسوم دول الخليج العربي